لحظة تأمل ... ؟-حسن الرموتي - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

لحظة تأمل ... ؟

  حسن الرموتي    

إلى محمد البيحي هناك

صحوت هذا الصباح متأخرا بعد أن غرقت في سبات عميق ، نور الشمس يغمر الغرفة ، أحسست بعطش فقمت متثاقلا ، ظهري يؤلمني ، و آلام حادة في رأسي ، دقات الساعة الحائطية الرتيبة تضاعف من ضجري ، في الحمام الضيق رششت الماء على وجهي و مسحت رأسي بيدي  ثم شربت من ماء صنبور ، رفعت رأسي إلى المرآة المعلقة أمامي و التي بدأت الرطوبة تأكل جوانبها ،  ثم ابتسمت ، بدت  ابتسامتي باهتة و دون معنى  ، تركت وجهي مبللا و سرت نحو المطبخ ، أعددت قهوة سوداء دون سكر وسرت نحو بلكون الشقة  و أزحت الستار ووقفت أتأمل المشهد أمامي ...بقايا سحب شاردة في سماء زرقاء بلورية ، سرب من الطيور يحلق بغير انتظام ، و سطوح المنازل أمامي فارغة من ربات  الغسيل أو سراق الحب من بنات و أبناء الجيران . بائع الجرائد العجوز في كشكه  عبد الله الثقافة  ، هكذا يدعوه  الزبناء ، على معرفة كبيرة بالأخبار السياسة أكثر من السياسيين أنفسهم ، يعرف كل أسماء الرؤساء و الملوك و العواصم ... تلاميذ المدارس لا يترددون في  استفساره، يتأمل  المارة مدخنا سيجارته  ذات التبغ الأسود ، دخانها يكاد يحجب وجهه ، بعضهم يقف أمام الكشك يقرأ العناوين مجانا ثم ينسحب ، عبد الله لا  يكترث بهؤلاء  فهم كثر كما يقول ويضيف ساخرا : المعرفة يجب أن تكون بالمجان ، ... بعضهم ينحني للأرض ليلتقط صحيفة و يناول البائع نقودا و ينسحب... قريبا من الكشك حاوية أزبال  دون غطاء ، مليئة بالقمامة  ، شاحنة البلدية التي تجمع الأزبال لم تمر بعد ،  فوق الحاوية قط سمين يبحث عن رزقه  ، ينبش ، و كلب ضال يقترب ، عظامه تكاد تخترق جلده الأغبر ، البطن ضامر تحمله  قوائم  نحيلة جدا ،حرب ضروس لا شك ستقع بين الحيوانين – هكذا خمنت – القط لم يهتم به ، اقترب الكلب من  الحاوية و بدأ يبحث ، تآلف القط و الكلب  معا ، ابتسمت في أعماقي لهذا التسامح ...في الجهة المقابلة موقف الباص ...  رجال و أطفال و نساء ينتظرون، منهم من أعياه الانتظار، بعضهم يجلس على كراسي خشبية قديمة، لم تتغير منذ سنوات، رجل يقترب من امرأة حتى ليكاد يلتصق بها ، ربما زوجته ، لا أستطيع أن أجزم .. الباص   لم يصل بعد ، ربما الرجل يتمنى ألا يصل ، ... على الرصيف  رجل أصلع ذو لحية بيضاء ،الارتخاء بدأ يدب في أوصاله ، قصير القامة ، يرتدي جلبابا  أسود و يشد بيد طفل ، الطفل يحمل محفظة مدرسية و يرتدي  سروالا قصيرا صيفيا  و قميصا يمثل فريقا أوروبيا مشهورا ، يبدو ذلك من ألوان القميص و ينتعل حذاء رياضيا رخيصا  ، الرجل يوبخ الطفل ، الطفل يبكي و الرجل لا يكترث  لبكائه ، الطفل يبدل جهدا واضحا ليواكب خطوات الرجل ...، شرطي المرور البدين أعياه الوقوف في  ملتقى الطرق ، أنف كبير و يبدو دون رقبة ،  لا يتوقف عن رفع يديه ، بذلته  رزقاء  أحالتها  أشعة الشمس إلى لون باهت ، المسدس  المتدلي عن يمينه  يبدو أنه غير محشو ،  السيارات لا تكف عن المروق أمامه في كلا الاتجاهين كأنها لا تعيره اهتماما  ، يبدو لي أنه متذمر ... ينتظر نهاية خدمته لينسحب إلى بيته منهوكا...شاب يضع يده على كتف  صديقته  و يسيران معا ، يتحدث الشاب كثيرا ، بينما هي صامتة ، تلبس سروالا من  نوع الجينز أسود و قد شُد بحزام أبيض ، و قميصا  يبرز مفاتنها بشكل مفضوح ، الشفتان مزمومتان  ،العنق  طويل قليلا ، قرطان طويلان  يتدليان و يلمعان  ، و الشاب يحمل على كتفه جاكتة بنية ، و يضع على نحره ربطة عنق على شكل فراشة  ربما مدعوان إلى حفل راقص،   الشاب و الشابة لا يعيران اهتماما للمّارة ، يلتفتان يمينا و يسارا ثم يقطعان الطريق ،و الشرطي يركز نظراته على الفتاة ...في الجهة المقابلة  لي مباشرة ، مقهى الوحدة العربية ، الواجهة الزجاجية غير نظيفة ،  الزبناء قليلون هذا الصباح ، يجلسون بتراخ على الكراسي المتهالكة ،  النادل يبدو متكاسلا  يمشي بتثاقل واضح ، أنف أفطس ،و وجه نحاسي تناثرت عليه بثور كأنها حبات قرنفل ، النادل  يضع كأسا أمام زبون و يعود إلى داخل المقهى ...الزبون ينش بيده ربما عن نحلة تقاسمه حلاوة الكأس ، و زبون آخر يحمل بين أنامله قلما  يملأ شبكة الكلمات المتقاطعة أو ورقة الرهان و يحلم بالثراء .   .الجهة اليسرى من الشارع  دكان حلاق الأناقة ينتظر زبونا ، الحلاق يجلس على كرسي يبدو أنه حديدي ، يرتشف من كأس يضعه على الأرض ، يشيّع المارة بنظراته  ، الحلاق يتابع مشهد امرأة تصافح أخرى ثم تعانقها  ، يطول العناق و تطول القبلات ، تنتبه المرأتان للحلاق و تبتعدان ، تهمس إحداهن للأخرى و تضحكان ، الحلاق ينسل لدكانه محرجا  ... قريبا من الدكان رجل آخر يقف على ساق واحدة  مستندا بكتفه على عمود كهربائي ، يقرأ في ورقة ، يلتفت يمينا و شمالا ، لا بد انه ينتظر أحدا ، وقد يكون مخبرا  يقف مقابلا  لدكان جزار طرابلس الذي لم يفتح حانوته هذا الصباح ،   بباب العمارة أمامي  جلست امرأة عجوز ، أسمالها عاجزة عن ستر جسدها ، و طفل نصف عار يلهو بالقرب منها ، تُناِولُه  مبتسمة  شيئا يأكله ، الشارع طويل و واسع ، تتفرع  منه أزقة كثيرة ، زقاق فلسطين ضيق ،  قريبا من مقهى  الوحدة  العربية ، طفل صغير يجري مسرعا ، يبدو أنه سرق شيئا  من بائع التين الشوكي الذي يقف  أمام عربته ، فقد كان  البائع  يتوعده ، فهمت ذلك من خلال إشارة صاحب العربة ، الزقاق لا مخرج له ، و في الزقاق المقابل مقهى أخر شعبي ، مطعم القاهرة ، يبدو أن اسم المقهى كتب بسرعة  وبخط رديء ، مطعم يقصده العمال البسطاء ، أصحاب العربات ، البناءون ، الصباغون و ماسحو الأحذية ... يتناولون وجبات رخيصة  . بدأ الشارع يكتظ بالراجلين ،و الشمس في كبد السماء ، الراجلون  يسيرون بلا  ظلال ، القيظ يشتد ، و أسفل الأحذية يكاد يلتصق بزفت الشارع  ، منهم من يحمل أكياسا  بلاستيكية  ، و المرأة ذات الأسمال أمام باب العمارة  تسعل بحدة و الطفل ينظر و هو يلوك شيئا ، شخص معتوه يمر أمامها يقهقه و ينظر إليها ، كان حافي القدمين ، قدماه لم تستقر في حذاء يوما ما ، المرأة تضم إليها الطفل و المعتوه يبتعد ، الكلب و القط  معا ما يزالان فوق حاوية الأزبال... ،  الباص لم يصل بعد ، المرأة التي كان الرجل يضايقها تتقدم نحو الأمام ، تُوقف سيارة أجرة ، سائق  الطاكسي يتوقف ، ينزل ، يتمطى ، يفتح مؤخرة السيارة و يضع شيئا ، تركب المرأة و تنطلق السيارة . الرجل الذي كان يضايق المرأة يغادر المكان دون أن يلتفت …شيعتُه بنظراتي حتى اختفى و لم أعد أميزه بين الراجلين... نوافذ الشقق تمتلئ بأغطية النوم و التي لا شك تفوح منها رائحة النوم و القبل و أشياء  أخرى ، جامع المتلاشيات قادم بعربته التي يجرها بغل ، يمر كل صباح ، لقد تأخر اليوم كثيرا عن موعده ، البغل يلوث الإسفلت بفرثه ووقع سنابك البغل تصل إلى سمعي ...الهاتف العمومي الوحيد  المثبت على قائمته قريبا من الرصيف يبدو معطلا ، و صاحب دراجة هوائية يتمايل و يوشك على السقوط ، ينحرف عن بضع رجال يحفرون ،  لم أكمل قهوتي ، الكأس  مازال منتصفا و القهوة أضحت باردة ، أبعدتها قليلا حتى لا تنسكب  على بعض المارة ...سمعت صرير شباك البلكون المحاذي ينفتح ، ظهرت جارتي لتطل بدورها على المشهد ،  ابتسمتْ ، ابتسمتُ بدوري ، تمتلك  سيارة جديدة و حساب بنكي ، هذا ما أخبرني به بواب العمارة بالأمس ، من الشقة تنبعث أغنية شعبية  ...انسحبت إلى شقتي  باحثا  عن ماء بارد في الثلاجة لأزيل مرارة القهوة من حلقي وعن شيء آكله .....



 
  حسن الرموتي - المغرب (2011-02-26)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

لحظة تأمل ... ؟-حسن الرموتي - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia